تعد الثورة التونسية حدثا فارقا في مسار التحوّلات التاريخية التي عرفتها تونس … ذلك أن هذه الثورة قطعت مع عصر الدكتاتورية و التفرّد و الإقصاء و الانفراد بالرأي و القرار لذلك كان الإعلام حكرا على السلطة و المقربين منها و وظيفته الرئيسية هي التعبئة و الدعاية و التبرير .
التعبئة لمساندة المستبد في كرنفالات انتخابية معروفة النتائج مسبقا و معروفة النسبة 99.99 بالمائة . والدعاية فهي التسويق للمشاريع الوهمية التي تنفّذ وفق أجندات خارجية ومصالح داخلية لعائلة الحاكم و الدائرين في فلكها . اما التبرير فيتمثل في تزيين كل قرار مرتجل يتخذه الدكتاتور ومن معه لإضفاء صبغة المصلحة العامة لما هو مرتجل و لخيارات اقتصادية معادية للمصلحة الوطنية لمنوال تنموي مهترئ . لذلك كانت التراخيص الاعلامية لا تمنح الا بشق الانفس و بكثير من الضمانات و حتى الذين تسربوا كالمياه فالرقابة عليهم اشد من حد السيف …
جاءت الثورة التونسية فحررت الأعلام من كل القيود و حررت اقلام الاعلاميين و حناجرهم و دخلنا بعد الثورة في زخم اعلامي فكثرت الدوريات و الصحف و الاذاعات . و لكن للحرية ثمنها لم تستطع وسائل الاعلام التي ظهرت بعد الثورة ان تصمد لعدة عوامل اهمها غياب دور الدولة في دعم الاعلام باعتبار ان الدولة تبنت خيارات اخرى اجتماعية و اقتصادية .. وسرعان ما بدات وسائل الاعلام الجديدة تعاني غياب الدعم و قلة المستشهرين فاغلقت الكثير من الصحف ابوابها و اندثرت و مرت الاذاعات بازمات مالية جعلتها غير قادرة على الايفاء بالتزاماتها تجاه العاملين بها فبيع بعضها و كبّل بعضها الاخر بالديون …
في هذا المشهد الاعلامي المضطرب و الذي يمكن فهم اسبابه والتي تتمثل في الوضع الحرج الذي تعيشه البلاد نتيجة الاحتقان الاجتماعي و ظهور افة الارهاب ، يظهر “راديو ماد ” تونس . وهو خيار صعب وشجاعة من باعثيه . الخيار الصعب يكمن عند قراءة الواقع العام المتحوّل سياسيا زيادة على الارهاب الذي بات يستهدف قطاعا استراتيجيا هو قطاع السياحة و الذي القى بظلاله على بقية القطاعات . كما ان لا احد ينكر وجود ركودا اقتصاديا هو امتداد لازمة اقتصادية عالمية .. ومن هنا يكون الخيار صعبا اذ ان الاعلام المسموع يفترض تحقيق نسبة استماع مرتفعة و ازدهار اقتصادي حتى يستطيع جلب المستشهرين لتغطية النفقات . فهل توفرت هذه الظروف الموضوعية عند نشأة راديو ماد؟
لقد نشأ راديوماد في وجود مؤسسات اعلامية وطنية و جهوية بعضها عام و الاخر خاص حققت انتشارا جماهريا في و لاية نابل وتونس الكبرى و بالتالي عليه ان ينطلق منذ البداية في منافسة مع الكبار و قدره ان يولد كبيرا كي يستمر مع الكبار بل عليه ان يكبر قبل الاوان، عليه ان ينتزع نصيبه من المستمعين من منابر اعتادوها لسنوات لذلك فان الخيار كان صعبا من البداية … لذلك عمد منذ البداية الى تحقيق اعلى درجات المنافسة بجلب بعض الاسماء الفارقة في دنيا الاعلام المسموع فجلب اسماء جلبت معها مستمعين .. ثم كان الخيار الصعب الثاني وهو لمن يتمعن في شعار هذه الاذاعة فسيعرف ابعاده ” راديو ماد الاذاعة الي تسمع ” . العادة ان يستمع الجمهور الى الاذاعة و لكن هذا الشعار يقلب المعادلة لتتحول الاذاعة المعدة للسماع الى مستمع اي انها ستصغي الى كلام مستمعيها و هواجسهم و تنقلها و بالتالي ستكون صوتهم و هو ما يعني وجود علاقة جديدة يتحول بمقتضاها الباث الى متقبل . وفعلا نحن اذا امعنا الى برامج راديو ماد فسنجدها برامج جماهرية بمعنى تبنى على نقل هواجس المستمعين و تشاركهم في صناعة الحدث الاعلامي دون السقوط في الرداءة ودون السقوط في خطاب شعبوي ملّه المستمع و لا يوجد برنامجا واحدا بها يبنى على علاقة عمودية مع المستمع بل على علاقة أفقية يشارك فيها هذا المستمع و يكون لحضوره الدور الفاعل .
وهذا الخيار صعبا ايضا باعتبار انه سيجعل علاقته الاذاعة متوترة بالسلطة اذ من طبيعة السلطة سيعها الى التلطيف الجو العام لكن شواغل المواطن العديدة التي تبث ستجعل الاذاعة الناقلة بمظهر المعارض و مما سيولده ذلك من تشنج ربما . وهذا الخيار صعبا لان بعض وسائل الاعلام تسعى لربط صلات و علاقات سياسية تكون سببا لجلب مستشهرين المنتمين لتلك الجهة الا ان راديو ماد ظهر بخط تحريري مستقل و اعطى الحرية الكاملة لعامليه لنقل الخبر و التفاعل مع الاحذاث باستقلالية ..
لقد ظهر ” راديو ماد ” رافعا خيارات صعبة لكنه استطاع تذليلها حتى افتك جمهوره بين الكبار و صار كبيرا رغم مرور اقل من سنة على بعثه وهو ما يعني ان الخيارات الاعلامية السهلة قد اجهزت عليها المرحلة و بالتالي فان النجاح ينبغي ان يصاحب بالتحدي و العمل وسلك طريق مختلفة تؤدي الى كسب ثقة المستمع .. لذلك فان تجربة العام تؤكد ولادة اذاعة سيكون لها شأن في المشهد الاعلامي التونسي بما ان الخيارات الصعبة لا يسلكها الا المقتدرون و شعارات تبادل الادوار مع المستمعين تفترض القدرة و المقدرة و الثقة .
ابواحمد
